2007 رهينة البطة السوداء
في اليوم الذي ضُربت فيه هدى على أذنها، ببيضة فاسدة ألقاها عليها جارها الأمريكي، تبنت مالك حزين أزرق. لم تكن تكفي شكواها إلى أصدقائها أو إلى صاحب البناية أو البواب أو حتى إلى زوجها. لقد ذهبت إلى سوق الجمعة وابتاعت أنكر الطيور صوتا. فنعيقه المزعج سيعذب، بالتأكيد، جارها الأمريكي الذي أسمته "ذكر البط الأسود".
حين عادت بالطائر العملاق إلى بيتها في الثالثة عصرا، سألها زوجها، فهمي، القابع في بيجامته: "ألا تنتفين شعر ذقنك، عادة، يوم الجمعة؟"
كل جمعة، فيما تقف ناظرة في مرآة يدها، ناتفة شعر ذقنها، كانت تختلس النظر إلى الخلف حيث ذكر البط الأسود في البناية المقابلة. في الأيام الدافئة عادة ما كان يتبختر عاريا في شرفته و في أعقابه سرب من الشبان المصريين. لقد أثار حنقها ذلك العرض الحسي المجرد من الحياء. كانت، بعد فراغها من مراقبة البطة السوداء و أتباعها، تصلي و تقرأ القرآن أمام صورة الواعظ في التليفزيون.
ها هو زوجها يقف رامقا الطائر الأزرق بغضب: "لِمَ لمْ تتبني قطة ضالة صغيرة؟ فهناك العديد منها في المنطقة!"
قالت: "أنت تكره القطط". لقد توسلت إليه مرارا أن يدعها تأتي بقطة إلى البيت، و كان يرفض الفكرة دائما.
- "سيفسد مالك الحزين هذا طقم الأنتريه المذهب"، قالها و كأنه عريس جديد، لا رجلا في الستين.
قالت له: "ربما يتحول الطائر إلى قط"
تذمر مجيبا: "طيور مالك الحزين تأكل السمك. هذا حيوان غير مستأنس و غير عملي بالمرة. أين سنحتفظ به؟ و مع و جود أمير هنا، ليس لدينا أية مساحة."
- "على أمير أن يجد مكانا آخر للعيش خاصة و أنه في الخامسة و الثلاثين"
_ "لكن أمير، يا هدى، لم يتزوج بعد. أتودين أن تعطي غرفته لطائر؟!"
كانت هدى في طور التحول. فداخليا، لم تكن قد حادت قيد أنملة عما هي عليه لسنوات عدة. لكن ثمة حادثين تسببتا في إلهائها عن ولعها الدائم بدور الخاطبة و اهتمامها بأسعار الذهب. كان أولهما أن صفعها ابنها الغالي، أمير، على وجنتها بعد مشاهدته لفيلم الإرهاب و الكباب. من سيقبل بالزواج من كتلة الشحم تلك التي تفرشخ على سرير الزوجية لتشاهد فيلم "اللنبي" مرة بعد أخرى؟ لقد أنفقت و فهمي آلاف الجنيهات من أجل دروسه الخصوصية حتى ينجح في كلية الهندسة بجامعة القاهرة. إلا أنه لم يحصل قط على أية وظيفة. كما أن أية فتاة "بنت ناس" قامت أمه بجلبها للمنزل قد غادرت و دموعها على خدها.
ثانيهما، و الأنكى من ذلك، أي من ابنها أمير، كان ذكر البط الأسود في البناية المقابلة و الذي عذبها بسلوكه الجنسي المشين: كل الإيحاءات، الصيحات، والموسيقى الصاخبة. كان ثمة مطرب يصدح كالآتي: "بوم بوم...يا يا".
في أيام الجمعة، كان الشبان يطوفون حوله في خشوع، كل ينتظر دوره. و كان يجلس كملك مباعدا بين ساقيه مغمض العينين. ماذا كانوا يفعلون له بالأسفل؟ و لماذا لم يتصل أحد بالبوليس؟
ذات مرة أشاح لها ذكر البط بمؤخرته المشعرة، ثم لاحقا أخرج لها عضوه و صوب بوله تجاهها. أضاءت أنوار ثريتها الباهرة و التي كانت في قوة كشافات البوليس. لم يكن لديها سلك يحمي نوافذها. و كعادتها، كانت في آخر الليل تتدلى من نافذتها لتراقب شقته بما أن المسلسلات التليفزيونية كانت جد مملة بالمقارنة مع السيناريوهات الليلية في شرفة ذكر البط الأسود.
كان يتردد عليه، أغلب الوقت، شاب ذو شعر مفلفل يرتدي بلوزة "هاي كول" كحلية و سروال جينز أمريكي أزرق و محبوك. حدست أنه في حوالي السابعة عشرة و لقبته ب"فارس". لم يكن ليصيبه الكلل و هو يطعن مؤخرة البطة السوداء على مدار ساعات عدة.
فكرت فيما سيكون الوضع عليه لو أن لها شريك جنسي بهذه الحيوية. إذ لم يكن لديها سوى زوجها الخامل و المفتقد للجدة في آن معا. كانت قد سمعت من بعض صديقاتها عن وجود أساليب متنوعة لاقتناص المزيد من اللذة.
أما الآن، و بدلا من ابنها، فإن مالك الحزين الأزرق يستلقي على سرير الزوجية الخاص بها و ينعق للرد على إعلانات معجون الأسنان و على امرأة ذات حجاب وردي تضع الملابس داخل الغسالة.
و ذات يوم، بعد معركة محتدمة مع مالك الحزين حول الحصول على مخدة، انتقل أمير للعيش مع عمته التي لم يكن لديها أولاد. و بلا أية محاذير، تعلم مالك الحزين كيفية تشغيل التليفزيون و إطفائه، بل لقد أرسى حقوقه في سرير الزوجية كذلك. كان يرفرف بجناحيه بين هدى و فهمي.
و بطبيعة للحال تشاجرا. شكا فهمي من تواجد الطائر بسريره، ومن الرائحة النتنة للسمك في شقته، و من الريش الساقط في أدراج خزانته. فاحت رائحة براز الطائر في أرجاء البيت، و لم تكن لتزيلها أية كمية من الكولونيا الرخيصة. شكا كذلك من أنها لم تعد تطهو له محشي الكوسة أو المكرونة بالباشاميل.
سألته هدى غير مصدقة: "أتشعر بالغيرة من حتة مالك حزين أزرق؟"
رد قائلا: "أنت لا تحبين الطائر الأزرق قدر ما تكرهين الجار الأمريكي."
بالطبع كانت تلتذ بالخلاف المستعر بينها و بين ذكر البط الأسود. كانت تستمتع بكراهيتها له أكثر من حبها لرجل ما أو حتى لمالك حزين أزرق. هل يمكن للحب أيضا أن يكون مستعرا هكذا؟
رد ذكر البط الضربة لها حين اشترى ببغاء أمازونيا ملونا، و لقنه بضع عبارات بالإنجليزية من قبيل: "أيتها الأخت القبيحة...أيتها الأخت القبيحة...أيتها الأخت القبيحة" هل كان يعنيها بهذا؟
"أنا مطلوب للعدالة مثل جيسي جيمس، أنا مثل جيسي جيمس، أنا مثل جيسي جيمس" من هو جيسي جيمس؟
أو يردد أغنية ب.ب.كينج: "عدت مجددا للخمر. عدت مجددا للخمر. عدت مجددا للخمر." ودت لو تكسر قنينة خمر على رأس البطة السوداء.
تبارى كل من مالك الحزين الأزرق و الببغاء العملاق في النعيق داخل الحارة السد. كان صراخ الطائرين يغطي على صوت الآذان و ضجيج أبواق السيارات و زعيق القطط الضالة على بعضها في موسم النكاح. أخبرها البواب الأسواني النحيل ذو القامة الطويلة، صارخا حتى تسمعه، إذ كان خطيب الجمعة يجأر بكلمات التقوى في الخلفية، أن الجيران يشكون مر الشكوى من صوت الطائر الأزرق الذي فاق الاحتمال.
و كما لو أن الببغاء قد استرق السمع للحوار الدائر فبدأ يراوح في صراخه بين "تباً لبني قريظة... الله أكبر!" و "أيتها الأخت القبيحة!" و "أنا مجرم مثل جيسي جيمس!"
شكا شيخ المسجد حاله للبواب الذي بدوره أ خبر الدكتور حسام، مالك البناية المصري المقيم بالولايات المتحدة، عن هرطقة الببغاء الذي علت تكبيرته على تكبيرة الشيخ، رغم أن الأخير كان يرفع من عقيرة الميكروفون إلى حد يماثل صوت فرملة السيارات الفجائية...إيييك!
إذا، فقد أضحى هذا الببغاء الملون من عمل الشيطان. ربما زرع الصهاينة هذا الببغاء في حي جاردن سيتي لكي يدمروا الروح التبليغية لذلك المسجد الصغير المناضل! كان مالك البناية جراحا تجميليا يُدَرس في جامعة ميزوري بمدينة كولومبيا، و قد بدأ يرهب من إجراء مكالمات مكلفة إلى مصر حتى لا يسمع مجددا عن هرطقة الببغاء الذي يمتلكه ذكر البط الأسود في بنايته.
بلا إساءة أدب يا شيخ عبده، قال الدكتور، أتظن أن الإسرائيليين سيضيعون وقتهم على مسجد صغير في جاردن سيتي؟ رد الشيخ عبده بمسحة من الغموض: لا تقلل أبدا من شأن ما يستطيع الصهاينة فعله.
ربما زرع الأقباط هذا الببغاء في الحي" ، قالها الدكتور حسام مانحا الشيخ تفسيرا تآمريا من" نوع جديد. "هناك كنيسة أرثوروكسية قبطية قي الشارع الموازي للمسجد
رد الشيخ عبده: "لم أفكر في هذا من قبل"
ألم يطلب منك بعض الجيران في الحي أن تخفض من صوت الميكروفون في صلوات الجمعة في السنوات الخمس الأخيرة؟
"رد الشيخ عبده: "يعني!"
ثم وعده الدكتور حسام بأن يكلم الجامعة في هذا الشأن حتى يأتي أحدهم ليتحدث مع ذكر البط الأسود في موضوع الببغاء المهرطق، لكنه نسي الأمر بسبب جدول أعماله المزدحم في كلية الطب. كان يعلم طلابا بيضا من الغرب الأوسط كيفية إجراء عمليات نزع الدهون و تكبير الأثداء. في الأثناء، تغيرت الأجواء في شقة البطة السوداء في تلك البناية بجاردن سيتي. فبدلا من تجمهر الرجال في الشرفة، سمعت هدى صراخا، صوت ارتطام أجسام بالحائط و طرقعة عظام و سباب: "يا بن السافلة! يا حقير!".
كان الغضب الكامن في تلك الكلمات أسوأ بكثير من نداءت الببغاء المملة: "أنا مجرم مثل جيسي جيمس".
عندما أتى أمير إلى الغداء سألته: "يعني إيه حكير؟
رد ضاحكا و دبوس الدجاجة في فمه: "عاوزة تعرفي ليه؟
"-و لا حاجة"، أجابته محاولة تفادي مناقشة أمر البطة السوداء معه. هل نبذ أمير فكرة الزواج لكونه مثل البطة السوداء؟ لكنها سرعان ما طردت تلك الفكرة السخيفة من رأسها.
و مرارا كان ذكر البط يجلس في شرفته وحيدا، بكيس ثلج ممزق على وجهه المشبع ضربا. ما عاد ملكا على عرشه. بدا مثيرا للشفقة كأي شحاذ بساق واحدة في شارع القصر العيني. و لكن أليس هو الذي أتى لنفسه بالمصائب؟ عقاب إلهي على أفعاله
المشينة؟ و لئن رآها ذكر البط تحملق فيه كان يصرخ: "ضعيه في المؤخرة يا أختاه!" رافعا إصبعه الأوسط في الهواء. كانت واثقة من سفالة المعنى. حاجة وحشة أكيد. قبيحة.
بعدها بقليل اختفى الببغاء الأمازوني الصاخب. ظنت هدى أن صاحب البناية قد اتصل من أمريكا ليخبر ذكر البط أن عليه التخلص من الببغاء، لكن البواب كان لديه تفسير آخر.
- "لقد أعطى ذكر البط كل ما يملك للشاب الوسيم ذي الشعر المفلفل، و هو لا يحتكم الآن على قرش تعريفة لشراء سندويتش فول، و قد باع الببغاء لمحل حيوانات بالمنطقة من أجل نفقات البقالة."
سألته: "ألا يعمل في الجامعة الأمريكية؟ ألا يدفعون له مرتبا جيدا؟
تعجبت هدى من أحوال هؤلاء الأجانب الذين يأتون للقاهرة، ثم ألمحت للبواب ببقشيش إضافي إذا ما أتاها بالمزيد من أخبار ذكر البط.
أطرب أذنيها بالشائعات التي كانت مزيجا من تنبؤاته الخاصة و الحقيقة العرضية. سمعت منه مثلا أن شهية ذكر البط الجنسية كانت تفوق الخيال مما حدا به إلى ارتكاب المعاصي مع الجنود النحلاء من حرس السفارات بالجوار. سمعت كذلك أنه واعد أحد النصابين بالمنطقة فوضعه تحت تأثير المخدر و سلبه ثلاثة آلاف من الدولارات. (لم كان يحتفظ بكل هذا المبلغ في بيته؟)
لم تر ذكر البط على مدار أسبوع. لم يكن أحد يعلم بمصيره. كانت تسهر حتى الساعات الأولى من الصباح آملة في التقاط و لو نظرة له في شرفته. أصابها القلق. هل ألمت به مصيبة؟ هل انتقم منه أحد عشاقه؟
قالت لزوجها: "أعتقد أن جارنا الأجنبي قد قُتِل.
رد عليها: "أظن أن حياتك كلها باتت أسيرة للجار الأجنبي. هلا فكرت في شيء آخر؟ أراك تهملين واجباتك الزوجية". بالطبع لم يكن يرمي لأي شيء جنسي، بل كان يقصد المكرونة الباشاميل التي لم يعد لديها وقت لإعدادها.
بات عليها أن تكتشف ما حدث لذكر البط. هل كانت تعرف أحدا يعمل بالجامعة الأمريكية؟ أي أحد؟
كان لهدى صديقة طفولة تدعى ثريا تعمل سكرتيرة في مكتب السجلات بالجامعة، بيد أن علاقتهما لم تعد وثيقة كما في الماضي. عندما زارتها ثريا ظلت الأخيرة ترغي و تزبد في الفخار بإنجازات ولديها الذَيْن هاجرا إلى كليفلاند، أوهايو و كيف أنهما يقودان سيارات لاند كروزر. بالطبع أثار ذلك حفيظة هدى عندما فكرت في ابنها الذي ينصب جل اهتمامه على أفلام "اللنبي" الهزلية.
كلفتها الزيارة شايا و بسكويتا بالعجوة. و بعد ثلاث ساعت من الاستماع إلى أدق التفاصيل المجانية عن حياة أحفادها كذلك، بادرتها هدى بالقول: "على فكرة، لدينا جار هنا يشتغل بالتدريس في الجامعة الأمريكية"، لم تكن تعرف حتى اسمه. تثاءبت ثريا كهِرة بدينة قائلة: "إنهم يأتون و يذهبون، فكيف لي بمعرفة كل هؤلاء المدرسين؟"
عاجلتها هدى: "أظن أن خطبا ما قد ألم به. لقد اختفى ... ببساطة!"
ردت ثريا: "ربما غادر البلاد ... هل كان صديقا لك؟" ثم قفت سؤالها بغمزة دالة. فزعت هدى إذ إن ثريا كانت ثرثارة، فردت عليها محاولة ادعاء العرضية: "ليس تماما"
قالت ثريا: "تعرفين أن الأمريكيين ليسوا عاطفيين مثلنا، أعني قد يغادرون البلاد في لمح البصر ... أقول لك ... لقد استمتعت بصحبتك ... حان وقت رحيلي، فمصطفى ينتظر مني طاجن الفتة بالكوارع ... تعرفين أن إعداده يستهلك وقتا طويلا.
"اصطنعت هدى ابتسامة: "نعم ... هؤلاء الرجال يستهلكون كل وقتنا "!
ضاعت في الهواء إذن كل تلك الساعات التي أمضتها مع ثريا المتفاخرة.
في اليوم التالي أنبأها البواب أن ذكر البط الأسود قد انتقل إلى شقة أخرى في جاردن سيتي، ثم بعدها بيومين قال إنه قد عاد إلى أمريكا.
بدأت تساورها الشكوك. ماذا لو كان البواب يكذب عليها طوال الوقت؟ كيف يمكن للبطة السوداء التواجد في مصر و أمريكا في ذات الوقت؟
أقسم البواب على أنه رأى ذكر البط يركب سيارة أجرة في آخر الليل بحقيبتي ملابس ضخمتين تم ربطهما بسقف السيارة.
عقب انتهاء الصيف، انتقل رجل أمريكي آخر إلى شقة ذكر البط. لم يفتح الساكن الجديد نوافذه أبدا و كانت ستائره دوما مسدلة. وصل الأمر بهدى إلى شراء زوج من النظارات المعظمة، و لكن ذلك لم يُجدِها نفعا. لم تقو عيناها على اختراق الستائر البنية السميكة.
لم يكن الأمر تماما كما في السابق. فقد كان الرجل الجديد مملا بالمقارنة مع ذكر البط.
ذات مرة ظهر هذا الساكن الجديد بلحية بنية كثيفة في الشرفة. أكان إسبانيا؟ كان يرتدي حلة ثقيلة و كأنه ذاهب للصيد. لم أتى الرجل ذو اللحية إلى القاهرة؟ أتراه يهوى الشبان الصغار مثل ذكر البط؟
في إحدى المرات فتح الرجل الجديد أبواب شرفته على مصراعيها، و لاحظ قفص الببغاء الخاوي. بدأ ينفض الأتربة و براز الطائر عن الشرفة، لكنه عاد للداخل بعد خمس دقائق من التنظيف.
"يا لك من كسول، تماما مثل أمير!"
ارتكنت المقشة الوردية على الشيش لعدة أسابيع. و على عكس البطة السوداء، لم يكن يستهويه الجلوس في الشرفة. لقد أحكم إغلاق شقته كفقاعة، و تهادى في الريح قفص الببغاء الخاوي.
ذات جمعة، إذ كانت تحدق في الشرفة الخالية، بادرها فهمي قائلا: "أظن أنه، بعد رحيل الجار الأجنبي، قد آن الأوان للتخلص من مالك الحزين الأزرق."
قالت هدى: "لا"
رد فهمي بنبرة متوعدة: "فلتستعدي للطلاق إن لم تتخلصي من الطائر."
تثاءبت متجاهلة وعيده إذ لم تأخذه على محمل الجد.
بعد ثلاثة أيام اختفى مالك الحزين.
قتلت شقتها بحثا عن الطائر: في كل الخزانات، في كل سلال الغسيل، تحت كل الأسرة. لماذا يختف الطائر بعدما اعتاد على الاسترخاء بمنتهى الثقة على سريرها؟ لابد إذن أنه طار. لم يبق شيء سوى رائحة السمك و قطع متجمدة من برازه و بضع ريشات.
بلغ بها الحد إلى أن تفتش في ماسورة القمامة. وجدت زجاجات مياه معدنية فارغة، علب بيتزا دومينوز، بعض قطع الخيط، ورود حمراء ميتة، لب ثمرة كنتالوب، و ثفل قهوة.
كادت تفقد الأمل حتى عثرت أخيرا على مالكها الحزين ملفوفا في شنطة ورقية من المطعم اللبناني. كان مدفونا هناك بين العلب البلاستيكية البيضاء للباذنجان و الحمص، و قد سقطت في عينيه نقاط من زيت الرمان...يا مسكين!
لقد خنقه أحدهم. لم يعد ينعق. أذهلها أن تتجلى لأحد ما القدرة على قتل طائر. في الوقت ذاته لم تكن لتتمنى عودته للحياة. كان فهمي مصيبا. يبدو أنها لم تحب ذا المالك الحزين الأزرق أبدا، بل أتت به من باب الانتقام. لكن انتقامها من ذكر البط الأسود قد تحول إلى شيء آخر.
صنعت من الشنطة الورقية كفنا يغطي الوجه المنكفئ للطائر قائلة: "الله يرحمك!" نادت على البواب: "قتل أحدهم طائري!"
بدا البواب مندهشا: "حقا؟ ظننت أنه سيحيا إلى الأبد!"
- هل تعرف من قتله؟
رد البواب حاكا ذقنه: "من الصعب الجزم بذلك. ربما أحد أفراد عائلتك. ربما أحد جيرانك. اعذريني، و لكن نعيقه كان فوق الاحتمال!"
صعدت هدى على السلالم بدلا من أن تركب المصعد العتيق الذي يشبه القفص مما ذكرها إلى حد ما بقفص الببغاء لدى ذكر البط. لم يكن زوجها بالبيت. فتحت باب غرفة نومها و ألقت نظرة لتجد بضع ريشات زرقاء لمالك الحزين و قد استقرت على سرير الزوجية، تحديدا في المنتصف، حيث الموضع الهابط من السرير.
كانت ممتنة لعدم وجود أمير هناك منتظرا أن يؤتى له بالشاي كما الباشا. لقد أفسدته. لربما كانت الأمور ستؤول لحال أفضل لو أنها أنجبت طفلا آخر. لكنها لن تنسى أبدا البهجة المصاحبة لمولده. كان ضئيلا للغاية و لا حيلة له ... طفلا سعيدا! عندما كان يبتسم كانت ثمة نغزة تبدو جلية بذقنه. لم تكن تستطيع مقاومة تقبيله على ذقنه. حدث هذا منذ زمان بعيد.